الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (105): {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)}{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} عطف كما قال غير واحد على {أَنْ أَكُونَ} [يونس: 104] واعترض بأن {ءانٍ} في المعطوف عليه مصدرية بلا كلام لعملها النصب والتي في جانب المعطوف لا يصح أن تكون كذلك لوقوع الأمر بعدها، وكذا لا يصح أن تكون مفسرة لعطفها على المصدرية ولأنه يلزم دخول الباء المقدرة عليها والمفسرة لا يدخل عليها ذلك، ودفع ذلك باختيار كونها مصدرية ووقوع الأمر بعدها لا يضر في ذلك، فقد نقل عن سيبويه أنه يجوز وصلها به، ولا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب والخبر لأنه إنما منع في الموصول الإسمي لأنه وضع للتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل والجمل الطلبية لا تكون صفة، والمقصود من أن هذه يذكر بعدها ما يدل على المصدر الذي تأول به وهو يحصل بكل فعل، وكون تأويله يزيل معنى الأمر المقصود منه مدفوع بأنه يؤول كما أشرنا إليه فيما مر بالأمر بالإقامة إذ كما يؤخذ المصدر من المادة قد يؤخذ من الصيغة مع أنه لا حاجة إليه هنا لدلالة قوله تعالى: {أُمِرْتُ} [يونس: 104] عليه، وفي الفرائد أنه يجوز أن يقدر وأوحى إلى أن أقم، وتعقبه الطيبي بأن هذا سائغ إعرابًا إلا أن في ذلك العطف فائدة معنوية وهي أن {وَأَنْ أَقِمْ} إلخ كالتفسير {لأن أكون} [يونس: 104] إلخ على أسلوب أعجبني زيد وكرمه داخل معه في حكم المأمور فلو قدر ذلك فات غرض التفسير وتكون الجملة مستقلة معطوفة على مثلها، وفيه تأمل لجواز أن تكون هذه الجملة مفسرة للجملة المعطوفة هي عليها، وقدر أبو حيان ذلك وزعم أن {ءانٍ} حينئذٍ يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لأن في الفعل المقدر معنى القول دون حروفه وأنه على ذلك يزول قلق العطف ويكون الخطاب في {وَجْهَكَ} في محله، ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها، وأما صحة وقوع المصدرية فاعلًا أو مفعولًا فليس بلازم ولا قلق في العطف الذي عناه، وأمر الخطاب سهل لأنه لملاحظة المحكي والأمر المذكور معه.وإقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى والإعراض عمن سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا إذ لو التفت بطلت المقابلة، والظاهر أن الوجه على هذا على ظاهره ويجوز أن يراد به الذات، والمراد اصرف ذاتك وكليتك للدين واجتهد بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، فاللام صلة {أَقِمِ} وقيل: الوجه على ظاهره وإقامته توجيهه للقبلة أي استقبل القبلة ولا تلتفت إلى اليمين أو الشمال، فاللام للتعليل وليس بذاك، ومثله القول بأن ذلك كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين {حَنِيفًا} أي مائلًا عن الأديان الباطلة، وهو حال إما من الوجه أو من الدين، وعلى الأول: تكون حالًا مؤكدة لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل، وعلى الثاني: قيل تكون حالًا منتقلة وفيه نظر، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في {أَقِمِ} {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} عطف على {أَقِمِ} داخل تحت الأمر وفيه تأكيد له أي لا تكونن منهم اعتقادًا ولا عملًا..تفسير الآية رقم (106): {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)}{وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله} استقلالًا ولا اشتراكًا {مَا لاَ يَنفَعُكَ} بنفسه إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب {وَلاَ يَضُرُّكَ} إذا تركته بسلب المحبوب دفعًا أو رفعًا أو بإيقاع المكروه، والجملة قيل معطوفة على جملة النهي قبلها، واختار بعض المحققين عطفها على قوله سبحانه: {قُلْ ياأهل أَيُّهَا الناس} [يونس: 104] فهي غير داخلة تحت الأمر لأن ما بعدها من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا وجه لإدراج الكل تحت الأمر. وأنت تعلم أنه لو قدر فعل الإيحاء في {وَأَنْ أَقِمْ} [يونس: 105] كما فعل أبو حيان وصاحب الفرائد لا مانع من العطف كما هو الظاهر على جملة النهي المعطوفة على الجملة الأولى وإدراج جميع المتسقات تحت الإيحاء، وقد يرجح ذلك التقدير بأنه لا يحتاج معه إلى ارتكاب خلاف الظاهر من العطف على البعيد، وقيل: لا حاجة إلى تقدير الإيحاء والعطف كما قيل والأمر السابق عنى الوحي كأنه قيل: وأوحى إلى أن أكون إلخ والاندراج حينئذٍ مما لا بأس به وهو كما ترى ولا أظنك تقبله {فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين} أي معدودًا في عدادهم، والفعل كناية عن الدعاء كأنه قيل: فإن دعوت ما لا ينفع ولا يضر، وكني عن ذلك على ما قيل تنويهًا لشأنه عليه الصلاة والسلام وتنبيهًا على رفعة مكانه صلى الله عليه وسلم من أن ينسب إليه عبادة غير الله تعالى ولو في ضمن الجملة الشرطية.والكلام في فائدة نحو النهي المذكور قد مر آنفًا، وجواب الشرط على ما في النهي جملة {فَإِنَّكَ} وخبرها أعني {مِنَ الظالمين} وتوسطت {إِذَا} بين الاسم والخبر مع أن رتبتها بعد الخبر رعاية للفاصلة. وفي الكشاف أن {إِذَا} جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلًا سأل عن تبعة عبادة الأوثان فجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وهذه عبارة النحويين، وفسرت كما قال الشهاب: بأن المراد أنها تدل على أن ما بعدها مسبب عن شرط محقق أو مقدر وجواب عن كلام محقق أو مقدر. وقد ذكر الجلال السيوطي عليه الرحمة في «جمع الجوامع» بعد أن بين أن إذا الظرفية قد يحذف جزء الجملة التي أضيفت هي إليها أو كلها فيعوض عنه التنوين وتكسر للساكنين لا للإعراب خلافًا للأخفش وقد تفتح أن شيخه الكافيجي ألحق بها {أَذِنَ}، ثم قال في شرحه «همع الهوامع»: وقد أشرت بقولي: وألحق شيخنا بها في ذلك {أَذِنَ} إلى مسألة غريبة قل من تعرض لها؛ وذلك أني سمعت شيخنا عليه الرحمة يقول في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} [المؤمنون: 34] ليست {أَذِنَ} هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذًا الشرطية حذفت جملتها التي يضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذٍ وكنت أستحسن هذا جدًا وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك حتى رأيت بعض المتأخرين جنح إلى ما جنح إليه الشيخ، وقد أوسعت الكلام في ذلك في حاشية المغني انتهى.وأنت تعلم أن الآية التي ذكرها كالآية التي نحن فيها وما ذكره مما يميل إليه القلب ولا أرى فيه بأسًا ولعله أولى مما قاله صاحب الكشاف ومتبعوه فليحمل ما في الآية عليه، وكان كثيرًا ما يخطر لي ذلك إلا أني لم أكد أقدم على إثباته حتى رأيته لغيري ممن لا ينكر فضله فأثبته حامدًا لله تعالى..تفسير الآية رقم (107): {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} تقرير لما أورد في حيز الصلة من سلب النفع من المعبودات الباطلة وتصوير لاختصاصه به سبحانه أي وإن يصبك بسوء ما {فَلاَ كاشف لَهُ} عنك كائنًا من كان وما كان {إِلاَّ هُوَ} وحده فثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهاني، وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب استلزامًا ظاهرًا، فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى انتفى النفع بالكلية {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} تحقيق لسلب الضرر الوارد في حيز الصلة أي إن يرد أن يصيبك بخير {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} الذي من جملته ما أرادك به من الخير، فهو دليل على جواب الشرط لا نفس الجواب، وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل والكرم من غير استحقاق عليه سبحانه أي لا أحد يقدر على رده كائنًا من كان فيدخل فيه الأصنام دخولًا أوليًا، وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبل وقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه استلزامًا جليًا؛ ولعل ذكره الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين لأن ما يريده سبحانه يصيب وما يصيب لا يكون إلا بإرادته تعالى للإيذان بأن الخير مقصود لله تعالى بالذات والضر إنما يقع جزاء على الأعمال وليس مقصودًا بالذات، ويحتمل أنه أريد معنى الفعلين في كل من الخير والضر لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب إلا أنه قصد الإيجاز في الكلام فذكر في أحدهما المس وفي الآخر الإرادة ليدل بما ذكر في كل جانب على ما ترك في الجانب الآخر، ففي الآية نوع من البديع يسمى احتباكًا وقد تقدم في غير آية، ولم يستثن سبحانه في جانب الخير إظهارًا لكمال العناية به وينبئ عن ذلك قوله تعالى: {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} حيث صرح جل شأنه بالإصابة بالفضل المنتظم لما أراد من الخير، وقيل: إنما لم يستثن جل وعلا في ذلك لأنه قد فرض فيه أن تعلق الخير به واقع بإرادته تعالى وصحة الاستثناء تكون بإرادة ضده في ذلك الوقت وهو محال، وهذا بخلاف مس الضر فإن إرادة كشفه لا تستلزم المحال وهو تعلق الإرادتين بالضدين في وقت واحد، وفي العدول عن يرد بك الخير إلى ما في النظم الجليل إيماء كما قيل إلى أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله، وما أشرنا إليه من رجوع ضمير {بِهِ} إلى الفضل هو الظاهر المناسب، وجوز رجوعه لما ذكر وليس بذاك، وحمل الفضل على العموم أولًا وآخرًا حسا علمت هو الذي ذهب إليه بعض المحققين رادًا على من جعله عبارة عن ذلك الخير بعينه على أن يكون الإتيان به أولًا ظاهرًا من باب وضع المظهر موضع المضمر إظهارًا لما ذكر من الفائدة بأن قوله سبحانه: {مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} يأبى ذلك لأنه ينادي بالعموم، ويجوز عندي أن يكون الكلام من باب عندي درهم ونصفه، وقوله سبحانه: {وَهُوَ الغفور الرحيم} تذييل لقوله تعالى: {يُصَيبُ بِهِ} إلخ مقرر لمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة مقرر لمضمونها.وذكر الإمام في هذه الآيات أن قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [يونس: 105] لا يمكن أن يكون نهيًا عن عبادة الأوثان لأن ذلك مذكور في قوله سبحانه أول الآية: {لاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [يونس: 104] فلابد من حمل هذا الكلام على ما فيه فائدة زائدة وهي أن من عرف مولاه لو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركًا وهو الذي يسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي، ويجعل قوله سبحانه: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} [يونس: 106] إشارة إلى مقام هو آخر درجات العارفين لأن ما سوى الحق ممكن لذاته موجود بإيجاده والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاب الحق وحينئذٍ فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا هو وكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا رجوع إلا إليه عز شأنه في الدارين.ومعنى {فَإِن فَعَلْتَ} [يونس: 106] إلخ فإن اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله تعالى فأنت من الظالمين أي الواضعين للشيء في غير موضعه إذ ما سوى الله تعالى معزول عن التصرف فإضافة التصرف إليه وضع للشيء في غير موضعه وهو الظلم، وطلب الانتفاع بالأشياء التي خلقها الله تعالى للانتفاع بها من الطعام والشراب ونحوهما لا ينافي الرجوع بالكلية إلى الله تعالى بشرط أن يكون بصر العقل عند التوجه إلى شيء من ذلك مشاهدًا لقدرة الله تعالى وجوده وإحسانه في إيجاد تلك الموجودات وإيداع تلك المنافع فيها مع الجزم بأنها في أنفسها وذواتها معدومة وهالكة ولا وجود لها ولا بقاء ولا تأثير إلا بإيجاد الله تعالى وإبقائه وإفاضة ما فيها من الخواص عليها بجوده وإحسانه، وقوله تبارك وتعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله} إلخ تقرير لأن جميع الممكنات مستندة إليه سبحانه وتعالى وإنه لا معول إلا عليه عز شأنه، وهو كلام حسن بيد أن زعمه أن قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [يونس: 105] لا يمكن أن يكون نهيًا عن عبادة الأوثان إلخ لا يخفى ما فيه. وقد ذكر نحو هذا الكلام في الآيات ساداتنا الصوفية، ففي أسرار القرآن أنه سبحانه خوف نبيه صلى الله عليه وسلم من الالتفات إلى غيره في اقباله عليه سبحانه بقوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} أي من الطالبين غيري والمؤثرين على جمال مشاهدتي ما لا يليق من الحدثان، وقد ذكروا أن إقامة الملة الحنيفية بتصحيح المععرفة وهو لا يكون إلا بترك النظر إلى ما سوى الحق جل جلاله، ثم أنه تعالى زاد تأكيدًا للإقبال عليه والاعراض عما سواه بقوله جل شأنه: {وَلاَ تَدْعُ} [يونس: 106] إلخ حيث أشار فيه إلى أن من طلب النفع أو الضر من غيره تعالى فهو ظالم أي واضع للربوبية في غير موضعها. ومن هنا قال شقيق البلخي: الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه واستدفع الضر ممن لا يملك الدفاع عن نفسه ومن عجز عن إقامة نفسه كيف يقيم غيره، وقرر ذلك بقوله تعالى: وإن يمسسك إلخ.ومن ذلك قال ابن عطاء: إنه تعالى قطع على عباده الرهبة والرغبة إلا منه وإليه بإعلامه أنه الضار النافع؛ وقد يكون الضر إشارة إلى الحجاب والخير إشارة إلى كشف الجمال أي إن يمسسك الله بضر الحجاب فلا كاشف لضرك إلا هو بظهور أنوار وصاله وإن يردك بكشف جماله فلا راد لفضل وصاله من سبب وعلة فإن المختص في الازل بالوصال لا يحتجب بشيء من الأشياء لأنه في الفضل السابق مصون من جريان القهر {هذا} ولعله مغن عن الكلام من باب الإشارة في الآيات حسا هو العادة في الكتاب.
|